Wednesday 28 February 2018

الانوف الكبيرة

ملخص ما سبق نشره من المدونة: انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر دول اوربا... كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا ومنها الى اسبانيا..ثم عبرت المتوسط الى المغرب فالجزائر وصلت البارحة الى الحدود التونسية ولكنهم رفضوا دخولي لانني ليس عندي تأشيرة تونسية واضطروني للعودة الى مدينة (عنابة) الجزائرية القريبة من الحدود..


الثلاثاء 23 أيلول 1969 

      في الصباح ذهبت الى (تعاضدية الحليب).. حيث جلست بعض الوقت هناك مع صديقّي (حسين رمضان) و(طاهر ميروزي)... حكيت لهما ماحصل البارحة في القنصلية التونسية.. شربت هناك بعض الحليب.. وبقيت جالساً حتى الظهر نتحدث في شتى المواضيع ثم تركتهم ..
      ذهبت الى احد التونسيين المقيمين في (عنابة) حيث ارشدني اليه صاحبي (حسين رمضان).. واخبرني عن هذا التونسي انه رجل اعمال ثري وتاجر كبير.. يملك عقارات واسواق كبيرة.. وهو قريب للقنصل التونسي.. وقد يتوسط لي عند القنصل... ذهبت الى الرجل.. كان اسمه (الهاشمي بونشيبة), اخبرته بالقصة كلها, رحب بي الرجل ورفع سماعة التليفون.. واتصل بالقنصل حالاً واخبره بالحكاية... ثم وبعد المكالمة اعتذر لي بأن المسألة ليست بيد القنصل.. كما اخبرت سابقاً..
         تذكرت موعدي مع (غنيم).. فرجعت الى القنصلية.. بقيت انتظر... كما متوقع.. لم يحضر!...
      عند الظهر اكلت في مطعم صغير طعاماً سيئاً جداً ب(دينارين)!. ذهبت اتمشى على غير هدى... وبدأت اشعر ببعض الضجر والوحدة.. آه لو انني اعثر على بعض المدرسين العراقيين.. اذاً لقضيت معهم الوقت في الايام المقبلة لحين حصولي على التأشيرة التونسية... لقد بدأت اكره وحدتي هذه التي لم اتعودها منذ بداية رحلتي.. 
              ذهبت الى (كازينو السلّم) .. الواقع على الشارع الرئيسي في (عنابة).. وهذا الشارع جميل جداً ذو بنايات حديثة انيقة وحدائق غناء وأشجار وارفة الظلال.. يجلس زبائن الكازينو على المقاعد تحت الاشجار الخضراء وفي الهواء المنعش الذي يهب من البحر الابيض المتوسط.. عرفت بأن المدرسين العرب قد تعودوا على اللقاء في (كازينو السلمّ).. سألت ال(قهوجي) فارشدني الى ثلاثة مدرسين على انهم عرب.. تبين انهم كانوا فلسطينيين... تعرفت عليهم وابدوا لي الكثير من الرغبة في المساعدة... حيث اخذوني الى الميناء.. حيث (شركة الملاحة الجزائرية) .. وسألوا عن البواخر... وكان الجواب هو ما كنت اعرفه سابقاً.. لايوجد خط ثابت للبواخر عدا تلك الذاهبة الى (مرسيليا).. عدنا خائبين الى الكازينو... لكني لمحت ان هناك مجموعة من الوجوه.. من المؤكد ان تلك الوجوه عراقية!..
     كانت فرحة كبيرة لي! ان ارى امامي بعض الوجوه السمراء المميزة بالانف الكبير.. مجموعة  من الانوف الكبيرة تمشي على الارض!.. وبعضها قد  تحفر بعض وجهه ب(حبة بغداد) وهي العلامات الفارقة للعراقيين!.. كانوا مجموعة صاخبة قد ارتفع صوتها حتى غطى على اصوات الجميع... تعرفت عليهم فوراً وسرت اتمشى معهم!.. الجميع وصلوا هذا اليوم فقط.. وهي تجربتهم الاولى في المجئ الى الجزائر ظمن برنامج (اعارة) المدرسين بين العراق والجزائر.. كلهم كانوا يرون الجزائر لاول مرة عدا مدرس واحد كردي اسمه (مكيّ).. البقية كانت اسماءهم (عبدالستار), (عصام), (صلاح), (ياسين), (فراس), (عدنان)..
      كان تعارفاً حافلاً سعدت به.. وهم ايضاً فرحوا بي كثيراً..  كانوا يضحكون من قلوبهم لانهم لم يسبق لهم ان يروا (سائح-اوتوستوب) عراقي قبل الآن!.. سائح عراقي-اصلي- ذو لحية طويلة وملابس (كاوبوي) , وحقيبة ظهر, وكيس نوم وخيمة!.!.. اخذوا يصلونني بالاسئلة بلا توقف وبفضول شديد.. عن حياة ال(اوتوستوب).. وعن الدول التي رايتها .. والمفارقات والمشاكل التي مررت بها.. الخ! كانوا مرحين جداً... وكان الوقت يقضى بالضحك!..
         كانوا قد نزلوا في احد الفنادق.. حيث ذهبنا جميعاً وجلسنا في احدى الغرف.. كانت هناك مشكلة تواجه احدهم وهو (عصام) حيث انهم عند صعودهم بالقطار من مدينة (الجزائر).. قاموا بشحن حقائبهم في عربة الشحن.. وعند وصولهم (عنابة) استلموا جميعاً حقائبهم.. عدا (عصام) المسكين الذي فقدت حقيبته وطبعاً هذه مصيبة لانها تحتوي على جميع حاجياته وملابسه التي جاء بها من العراق.. واضطر الى استعارة بدلة من احد زملائه.. وملابس نوم من آخر!..
         سألوني عن سبب وجودي في (عنابة).. فحكيت لهم قصتي مع (تونس).. لم يصدقوا حديثي عن سوء المعاملة التي لقيتها من موظفي دولة عربية!.. كانوا مفلسين جميعاً فقد تم خداعهم بأكذوبة الراتب المجزي الذي يحصل عليه المدرس حال وصوله الجزائر كسلفة لتدبر امور اقامته واستقراره.. وذلك قبل الراتب الشهري.. لكنهم لم يحصلوا على فلس واحد!..
     ذهبنا جميعاً الى مطعم يعرفه (مكًًي) .. اسمه مطعم (افريقيا).. كان (مكي) يقوم بدور المرشد السياحي والخبير في كل شئ.. فهو الوحيد الذي كان هنا منذ العام الماضي.. هذا المطعم (افريقيا) يقدم الطعام بتسجيله ك(دين مؤجل) الى نهاية الشهر لحين استلام الراتب.. اسعاره رخيصة لكن طعامه كان رديئاً!.. ولكن مادام يرضى بأن يقدم الطعام بالدفع الآجل فقد وافق الجميع عليه.. وسجل كل واحد منهم اسمه الكامل في دفتر صغير.. حيث يوقع فيه كلما تناول وجبة طعام.. ثم في نهاية الشهر يتم حساب ما تم اكله من وجبات.. وقد وقع (مكي) عن الوجبة التي تناولتها انا في دفتره...
    تجولنا في شوارع (عنابة) ونحن نملأ الكون صخباً وضجيجاً! وهي علامة العراقيين الفارقة في كل بلد.. ضجيج وتهريج!.. كان (فراس) اكثرنا مرحاً وذو اسلوب فكاهي في الكلام!.. وكان (مكي) اكثر الجميع اهمية وشخصية لانه يعرف (عنابة) جيداً.. ويعرف كل الامور المهمة فيها!.. لهذا فلا احد يتجرأ ان يعترض على مقترحاته وقراراته!.. سألوه السؤال الذي يشغل بال الاكثرية من شبابنا اينما ذهبوا.. السؤال التقليدي الذي كنت اتوقعه منهم!... "هل هناك محل عام... للبغاء؟" اجابهم "نعم" طلبوا منه ان يأخذهم اليه!...

       ذهبنا جميعاً.. حتى وصلنا المكان المقصود.. (المبغى العام). وهو في منطقة ضيقة شعبية .. وهناك ذهب الجميع ماعداي .... وعدا (صلاح) وهو كردي متدين ملتزم.. كان ذهابهم هناك شئ مؤسف ومحزن حقاً...
        بعد ساعة التقينا جميعاً ثانية في (كازينو السلم).. ثم ذهبنا الى الفندق حيث اخذ الجميع يتحدث عن (مغامراته في دور البغاء)!..

 [ انه شئ عجيب في هذا البلد.. فممارسة البغاء تجري تحت انغام الدفوف!.. لا ادري كيف ذلك! لكنهم حكوا لي بأن هناك ضارب او اكثر للدف.. وعندما يدخل (الزبون) مع البغي .. يبدأ الضرب على الدفوف... ولا اعرف تفسيراً لذلك!]
    في حوالي الحادية عشرة ليلاً عدت مسرعاً الى الحمّام الشعبي الذي صرت ابيت فيه كل ليلة .. كنت سعيداً جداً فقد حصلت على رفاق عراقيين ممتعين يملئون علي وحدتي.. واقضي معهم بعض الوقت... اخيراً!..


 سافر اكثر ما   تستطيع..  وابعد ما   تستطيع.. واطول ما   تستطيع.. فالحياة لا   تعني ان تبقى  في   مكان واحد...

No comments:

Post a Comment