Wednesday 28 February 2018

عرسهم... ام.. عرسي

ملخص ما سبق نشره من المدونة: انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر دول اوربا... كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا واسبانيا ثم عبرت المتوسط الى المغرب وها انا في الجزائر حيث وصلتها من مليلا ثم المغرب فغرب الجزائر وها انا متجه الى اقصى الشرق باتجاه تونس...

       كان العرس مقاماً في ساحة  فسيحة في الهواء الطلق.. والفرقة الشعبية تضرب بالدف وتعزف بالمزمار..  وفي وسط الساحة رجلان يرقصان بحركات رشيقه متناسقة مع اللحن.. رقصة اخبرني احد الشباب المراهقين ان اسمها (الهدّاوي)..

      ثم انظم اخرون للرقص في الساحة الوسطى.. كل منهم  يتحرك بحركات بمعزل عن الاخر.. يرقص بعالمه الخاص به... وحركاته الخاصة به... ولكن الحركات المتتابعة كانت تعطي انسجاماً رائعاً مع لحن (الهدّاوي)!.

           احد الشيوخ وضع عصا طويلة على جبهته وبقي يرقص طوال الوقت دون ان تسقط من جبهته! وثان يرقص وقد وضع قدح ماءعلى جبهته.. والاخر يرقص بحركات فكاهية مضحكة كألانسان الالي.. تشبه حركات رقص ال(بريك دانسbreak dance) للمرحوم (مايكل جاكسون).. 

كان كل من الراقصين يقترب اثناء رقصه شيئاً فشيئاً من عازفي الدف والمزمار ويلقي لهم بما يجود به من المال..          وهي عادة متعارف عليها في العراق ايضاُ والتي نسميها (شوباش).. (شوباش كلمة كردية او فارسية وتعني مساء الخير! وهي الطريقة التي ينادي بها العازفون والمغني الناس بين كل فاصل غنائي.. ليجودوا بما يتمكنون من المال.. أظهاراً لحبهم للعروسان.. وتشجيعاً للفنانين!) ...
              قضيت وقتاً رائعا ممتعاً بين الحان الاغاني الشعبية والاستمتاع بالتفرج على الرقصات الشعبية..
        قدم لي احد اصدقائي المراهقين الجزائريين علبة صغيرة تحتوي على مسحوق التبغ ..- كنت دائماً اراه عند السائقين الجزائريين الذين ركبت معهم منذ قدومي الجزائر..
وكانوا يستعملونه دون ان افهم ماهو- سألت صاحبي الجزائري "ماهذا؟"
 قال لي" انه تبغ مسحوق نسميه هنا (شمة حرشة).. انظر.. سوف اريك كيفية استعماله!" 
ثم اخرج قليلاً منه بواسطة الاصبعين السبابة والابهام ..ووضعه في زاوية الشفة السفلى داخل الفم.. ثم قال لي 
" لم لا تجرب استعمالها؟"


       هؤلاء المراهقين بالرغم من ان اعمارهم تتراوح بين الثالثة عشروالسادسة عشر.. الا انهم فيما يبدو يعرفون جميع الموبقات الذميمة والخطايا.. حالهم كحال جميع المراهقين في كل الدنيا, اصغرهم يحمل علبة سيجاير وعلبة من مسحوق التبغ, فيضع قليلاً من مسحوق التبغ تحت شفته السفلى ثم يوقد سيجارة.. يلتهم دخانها في رئتيه التهاماً..!

          انتابتني رغبة عارمة الى العودة لايام المراهقة.. ومنظر هؤلاء الشباب الضاحكين بسعادة, جعلتني اوافق على ان اجرب مسحوق التبغ هذا.. ال (شمّة حَرشَة).. وضعت اصبعين في العلبة ثم دسست المسحوق تحت شفتي السفلى .. 
         كانت كالنار المحرقة تحت شفتي وعلى لثّتي.. الم شديد جداً واللعاب بدأ يتكاثر في فمي.. ثم وبعد ثوان من الشعور بالحرقة, ماعدت احس سوى بخدر لذيذ يدب شيئاً فشيئاً في فمي ورأسي وجسدي.. واخذت اسبح في فضاء لانهائي.. والخدر المنعش يبعث شعوراً لذيذاً في نفسي..! حينما حاولت السير مع اصدقائي الجزائريين صرت اتعثر! .. كان شعوراً غامراً بالسعادة والنشوة.. زادته بهجة المكان والموسيقى الجميلة والجو الرائع شعوراً عارماً بالحب والسعادة والثقة بالنفس.. كنت احس بانني استطيع الطيران في الفضاء بدون جناحين!.. اما الموسيقى فكانت تشعرني ... ان  العرس هو عرسي انا.. وليس عرسهم!..
       سرنا عائدين نحو الدكان الذي تركته.. وبعد عشرة دقائق من النشوة..  صحوت تماماً.. كنا قد وصلنا الى الدكان وكان مغلقاً.. فاخذت اطرق بشدة.. حتى فتح لي الشاب التونسي المتعب المسكين وهو نصف نائم.. ثم دعاني التونسي الطيب الى ان ابيت الليلة في داخل دكانه... سحبنا الغطاء الخارجي للدكان الى اسفل.. وفتحت كيس النوم.. ودخلت في داخله.. وكانت احلاها  نومة..!



الاخ المثقف المبدع علي الدباغ ارسل لي التعقيب التالي 

     ثنية بني عيشة كانت محور صفحتين جميلتين من مدونتك الرائعة (او كما وصفتَها بانها فلمان في آنٍ واحد) وقد كانتا "كوپليه" في لحنٍ جميل لاغنيةٍ راقصةٍ رقصاً تعبيرياً لترسم بالكلمات صورةً ملوّنةً للجزائر اذكت في نفسي شعورَ الفَخارِ بهذه الامة العريقة التي حاول الاستعمار الفرنسي قتل الروح فيهم. وقد اثار اعجابي حفاظهم على التراث الحضاري الذي تركه الفرنسيون مع سعيهم الحثيث لاصلاح الخراب الذي تركوه... انها حقاً لمعادلةٍ صعبة ! ولكن يبدو انهم نجحوا بنسبة جيّدة خصوصاً في تحقيق تماسك المنظومة القِيَمِيّة للمجتمع الجزائري رغم تناشز التطرّف الديني الشعبوي وعلمانيّة التوجّه الاوروپي. وطيبة الشعب الجزائري الطبيعية واحترامهم للسائح الاجنبي رغم بشاعة الذكريات عما فعله الاجانب بهم. وقد كان موقف العامل البسيط في محل الحلويات والشباب الذين دعوك وببساطة لعرسٍ جزائري يرقصون فيه "الهداوي" ويدخنون "شمة حرشة" كما اسعدتني سعادتك واستمتعتِ باستمتاعك بالعرس وبلذّة خدر التبغ تحت الشفّة (!) وتساهيل المنام بموافقة عامل محل الحلويات على مبيتك داخل الدكان... كما يقول المثل: سهّلها تسهَل...--




2 comments:

  1. لا مو جكارة ... وصرت مدمن عليها!! مع كل الاشواق

    ReplyDelete