Wednesday 28 February 2018

الحياة اما مغامرة جريئة او لاشئ

    

ملخص ما سبق نشره من المدونة: انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر دول اوربا... كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا واسبانيا ثم عبرت المتوسط الى المغرب وها انا في الجزائر. وصلت البارحة الى مدينة (تلمسان).. وها انا في طريقي الى (وهران)..


الاربعاء 17 ايلول 1969
      
              توقفت لي سيارة (بك آب) اجلسني صاحبها في الصدربجانبه وسار بي مسافة اربعين كيلومتراً.. كان السائق لايحسن الكلام الا بالجزائرية او بالفرنسية..اخذ يقص لي عن اعتقادات ساذجة عن آثار الرسول (ص) في الجزائر.. ولم يقتنع ابداً بحججي وبرأيي بان الرسول لم يزر الجزائر ..ولم تكن الجزائر سوى مدن يحكمها الرومان في زمن الرسول وخلفاءه.. وبقي مصراً على ان الرسول (ص) قد جاء للجزائر وعمل كذا وكذا.. وحكى لي الكثير من القصص والروايات الشعبية التي تشبه الاساطير!...
       عندما اوصلني الى احدى المدن الصغيرة... اشتريت خبزاً وجبناً وتمراً بدينارين ونصف جزائري.. كان من الصعوبة بمكان التفاهم مع البائع.. خصوصاً وانا في اول يوم لي في الجزائر.. ولم يسبق لي العهد بسماع اللهجة الجزائرية, كما ان الناس البسطاء عندما يرون اجنبياً فانهم يتعمدون الكلام معه بالفرنسية لانهم يعتقدون ان كل الاجانب.. وكل السيّاح.. يتكلمون الفرنسية!.. وهم محقون لان جميع السواح الاوربيين الذين يقدمون الى الجزائر.. معظمهم ان لم يكن كلهم , يعرفون الفرنسية!... لذا فانني عندما سألت الرجل البائع كم حسابك فانه اجابني فوراً:
 (دو دينار اي دمي Deux Dinars et Demi) (ديناران ونصف).. 
        ولم يقتنع انني لم افهم شيئاً مما يقول.. واعطيته عشرة دنانير ليقتطع منها ما يشاء.. ويعيد لي الباقي! 
(ملاحظة تعلمت الفرنسية فيما بعد عندما حصلت على اجازة دراسية عام 1979 بعد تخرجي من الطب بستة سنوات.. عشت في فرنسا سنتين حيث حصلت على شهادة الاختصاص في الطب الرياضي من جامعة مونبليه)
      ان قسم من الجزائريين وهم قلة يتعمد الكلام بالفرنسية مخلوطة مع كلامه بالجزائرية كوسيلة للتفلسف وإبراز المعرفة والثقافة! فالذي يتكلم اللهجة الجزائرية فقط.. هو انسان غير مثقف.. وكلما ازدادت شهاداته وثقافته زاد ميله لاستعمال الفرنسية اكثر فأكثر كوسيلة للتخاطب.. 
      وقسم آخر من الجزائريين يتحدثون الفرنسية بحكم (العادة) ليس الا.. وقد رأيت في السيارات التي ركبتها ان قسم من الجزائريين عندما يتحدثون فيما بينهم فانهم يتحدثون باللهجة الجزائرية.. ثم وبدون  قصد منهم  (تقفز) بعض الكلمات او المقاطع والجمل والامثلة الفرنسية في حوارهم بين الحين والاخر دون ان يتعمدوا او حتى يشعروا بذلك..! كما إن اي اثنين قد يتحدثان خمس دقائق كاملة باللهجة الجزائرية ثم يسهواحدهما فيكمل حديثه بالفرنسية, دون ان ينتبه الاخر الذي يرد عليه بالفرنسية ايضاً.. وهكذا يكملون حديثهم بانسياب وعفوية.. ولكن باللغة الفرنسية!..
      ان الجزائريين يحزنون لهذه الظاهرة (عدا بعض مثقفي القشور)! وهم يريدون تعريب الكلام واللغة واعادة اللغة العربية الى مكانها الطبيعي في هذا البلد.. وهم يحملون جميعاً روحاً قومية وثورية.. وعلى درجة عالية جداً.. بحيث انك في كلامك مع الجزائريين تحس وكأنك تخاطب شعب كله ثوّاراً!.. (عدا بعض المتفلسفين وانصاف المثقفين!).. وهم في غالبيتهم ايضاً يحملون اخلاقاً اسلامية عالية وروحاً وعادات اصيلة.. ومتمسكون بالتقاليد الشرقية.. يستثنى من ذلك البعض من سكنة المدن الذين دخل الاستعمر الفرنسي الى قلوبهم وكيانهم.. فصاروا فرنسيين روحاً وجسداً وسلوكاً في اخلاقهم وتصرفاتهم! 
             انهيت طعامي الذي اكلته على الرصيف ..ثم حملت حقيبتي على ظهري وسرت..وبعد مسافة قليلة وصلت نقطة تفتيش عسكرية..  وبها عارضة كبيرة لقطع الطريق.. 

وقد وقف ال (جندرمة ((Gendarme)   الجزائريون بلباسهم الانيق..

        ان الاستعمار الفرنسي ترك طابعاً جميلاً يتمثل في النظام الاداري والاناقة والنظافة.. حتى لكأنك في داخل اوروبا!.. اوقفني الجندرمه الجزائري وسألني:
 " الى اين يا أخي؟" بالفرنسية ..

اجبته باللغة العربية "انا عربي! ذاهب الى وهران!" 

قال لي "حوّاس؟
أجبت "نعم .. حوّاس!" 
قال "إذاً..استرح.. هنا.." 



واشار الى احدى المقاعد الخشبية حيث جلست بضع دقائق.. جاءت سيارة فاوقفوها ثم فتشوها.. واطّلعوا على هويات الراكبين.. (لا ادري لماذا؟) .. ثم سألوا السائق:

 "اين انت ذاهب؟" 
قال " (اوران) كما يسمونها بالفرنسيةOran" التي تعني وهران.." قال للسائق بلهجة آمرة: 
"هناك حوّاس عربي.. خذه معك!" 
    ثم ناداني ال (جيندارم) كما يسمونه.. فاركبني السيارة بنفسه.. واغلق عني الباب.. شكرته.. وسارت بي السيارة الى (وهران)!

        وصلت (وهران) في الخامسةعصراً.. تمشيت فيها.. انها (عمالة) اي (محافظة) كبيرة, وهي عاصمة الثورةالجزائرية.. اذ من جبالها.. جبال الاوراس..  انطلقت الثورة الجزائرية وشرارتها.. شوارعها منظمة ونظيفة كما لو كنت في اي مدينة فرنسية..
      سألت عن الطريق المؤدي الى مدينة (الجزائر العاصمة) او كما يسمونها بالفرنسية (الجيه Alger) تمييزاً عن الجزائر الدولة التي يسمونها (ألجريAlgerie).. و تمشيت خارجاً من المدينة (وهران) وعلى الطريق المؤدي الى (الجزائر العاصمة)..
           وقفت لي سيارة (لاندروفر) اخذتني مسافة ثلاثون كيلومتراً.. ان الاوتوستوب في الجزائر سهل جداً..  فما دام هناك سيارات فإنها تتوقف لك!.. والناس طيبون جداً وفي منتهى اللطف والكرم مع الغريب.. الى ابعد الحدود.. 

      نظرت من شباك السيارة الى الجزائريين بزيهم الشعبي الجميل.. والنساء اللواتي ضربن بالخمارعلى الانف والفم... وهن يرتدين الجلابية العريضة البيضاء.. بل وقسم منهن يمتطين الدراجات الهوائية وهن يرتدين الجلباب والخمار!..




 اما الرجال فهم يرتدون (الجلابة) الجزائرية وهي (دشداشة) عريضة عادة تكون بالوان مقلّمة بالطول وبها غطاء رأس يتركونه معلقاً خلف الظهر او يبقونه فوق العمائم الكبيرة..
      اوصلتني ال(لاندروفر) الى (سيدي بلعباس).. (ابن العباس)!.. ويبدو من اسمها ان فيها مقاماً لاحد الصالحين... وهناك حل الظلام.. توقفت لي سيارة خصوصي بها اربعة شباب في نفس عمري.. اوصلوني الى مسافة بضع كيلومترات ثم نصحوني بان السفر بالليل قد يصير صعباً.. وان احسن طريقة هي ان ابيت الليلة في (الحمّام الشعبي)!.. ودلوني على احد الحمامات الشعبية!
         دخلت الحمام الشعبي.. وجدت قاعة كبيرة بها الكثير من الافرشة الممدودة على منصة عالية.. وهناك مكتب صغير وقف خلفه رجل بالزي الشعبي الجزائري.. جلبت انتباه الجميع بحقيبة السفر التي اضعها على ظهري.. ومنظري الاشعث.. سألني الرجل:
 "استحمام فقط.. ام مبيت ايضاً؟" 
أجبته "ااستحمّام... ومبيت!" 
        طلب مني جواز سفري.. وسجل المعلومات الموجودة فيه على استمارة رسمية تماماً كما لو كنت اسجل للدخول في فندق.. وطلب مني التوقيع.. ودفعت مبلغ اربعة دنانير (دولار وثلث).. عن اجرة النوم.. والاستحمام!.. تركت نقودي وحقيبتي معه واخرجت ملابسي النظيفة ودخلت الحمام.. في المنزع المستور علقت ملابسي ثم دخلت.. وفي داخل الحمام لم اكن استطيع ان ارى شيئاً من شدة البخار.. اعطاني رجل اثنتين او ثلاث قطع من القماش تلف حول خصري (وزرة) حيث لففت بها وسطي ودخلت.. كانت الساحة الوسطية بها منصة عالية من المرمر للتعّرق قبل الاستحمام.. وهناك مقاعد من المرمر منتشرة بشكل حلقة امام جدران الحمام.. 





وامام كل مقعد (حنفية)
للماء الحار واخرى للبارد.. اللذين يصبان في حوض صغير من المرمر.. كان استحماماً رائعاً ومنعشاً.. وقد كان في وقته وفي محله بالنسبة لي! لانني كنت احس بالحاجة الى الاستحمام... بعد مبيت ثلاثة ليال بدون استحمام!..



      بعد الحمام خرجت من منطقة البخار الكثيف الى حيث ارتديت ملابسي.. وبعدها استلقيت على احد الافرشة الوثيرة والغطاء القطني السميك.. وسرعان ما فقدت الاحساس بالعالم الخارجي... ورحت في نوم عميق لذيذ... 


  "الحياة.. اما مغامرة جريئة... او لاشئ"






وصلني التعقيب التالي من الصديق المتابع الجيد لمدونتي الاخ علي الدباغ:
الله الله يا ابا مروة على تلك الصورة الجميلة التي رسمتَها للجزائر والتي ذكرتني بما كانت تعنيه لي ولكل عربي ايام ثورتها في اوائل خمسينات القرن الماضي... وما زلتُ احفظ اناشيدها الوطنية واذكر منها:
 جزائرنا ... يا بلادَ الاسود
 نهضنا نحطّمُ عنكِ القيود
 وفيكِ برغمِ العدا سنسود
 ونعصفُ بالظلمِ والظالمين
       كما اذكر زيارة المناضلة "جميلة بو حيرد" لبغداد وكيف خرجت بغداد عن بكرة ابيها لتحييها... واذكرُ كذلك "رَدّة" السبايات في عاشور (عندما كانت السبايات تمثل الثورة الوطنية قبل ان يشوهها الجهلة) و قد كانوا يرددون فيها:
 الجزاير اخوتنا .. الجزاير اخوتنا
 ذولة اخوتنا .. ذولة اخوتنا 
 وين ندُگّ البسمار
 ونحرر هاي الدار...
     فقد كانت الجزائر رمز الكفاح الانساني ضد الاستعمار الفرنسي، ولو انني احترمتُ  موقف الشعب الفرنسي عندما منح الجزائر استقلالها عن فرنسا باستفتاءٍ   شعبي، رغمَ انه جاءَ من اصرار الشعب على القتال من اجل حريته والمليون شهيد   الذين اعطاهم في سبيلها.
            والاستعمار الثقافي الفرنسي بدأَ بفرنسة التعليم الابتدائي فيها ومن ثمَّ باقي مراحله، وفرض اللغة الفرنسية على نظام الادارة فيها، لذا فلا غرابَةَ فيما قلتَ عنهم وعن تحدّثِهِم بالفرنسية او ولاء البعض لفرنسا النموذج والقدوة.
           ووصفتَ ثورية الشعب الجزائري وايضاً طيبتِهِ وروح المساعدة عنده. وكان اغرب ما قرأتُ في "صفحتك" عن الحمّام العام ونظام المبيت فيه والذي لا اعتقد ان له مثيلاً في العالمِ اجمع! 
       وكم اثارت جملةٌ، وصفتَ بها "وهران" وجبال الاوراس فيها وانها منطلق   الثورة  الجزائرية، في نفسي من مشاعر وكم استدعت من معانٍ فصدحت موسيقى   الاناشيد الوطنية الجزائرية في اذني وهي تشدو
 سلاماً سلاماً جبالَ البلاد
 فانتِ الحصونُ لنا والعماد
 وفيكِ عقدنا لواءَ الجهاد
 وثرنا على الظلمِ والظالمين

No comments:

Post a Comment