Wednesday 28 February 2018

تلمسان


ملخص ما سبق نشره من المدونة: انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر دول اوربا... كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا واسبانيا ثم عبرت المتوسط الى المغرب وها انا في الجزائر.


الاربعاء 17 ايلول 1969  
       في الخامسة فجراً صدح صوت الاذان من الجامع المقابل للمقهى الذي كنت فيه.. تركت حقيبتي امانة عند صاحب المقهى وذهبت الى الجامع للصلاة... كان الجامع يسمى الجامع الكبير وهو اكبر جامع في مدينة (تلمسان)..

         محل الوضوء كان عبارة عن حوض دائري من المرمر مملوء بالماء والمتوضؤون يحيطون بالحوض يغرفون الماء بأكفهم ويؤدون الوضوء بهذه الطريقة.. كان الماء بارداً كالثلج وصافياً وقد انعشني الوضوء بماءه البارد وصفاءه وازال عني ارهاق الليلة الماضية حيث لم انم بشكل مريح....
       دخلت الحرم للصلاة.. كان الحرم رائعاً كبيراً مفروشاً بالسجاد الفاخر وتوسطت المسجد ثريا هائلة من الكريستال, 

اخبرني احد المصلين ان بها ثلثمائة وخمسة وستين مصباحاً اي بعدد ايام السنة.. واديت الصلاة جماعة بين عدد كبير من المصلين.. كان المصلون جميعاً يسبلون ايديهم في الصلاة... لانهم من اتباع المذهب السني (المالكي)..
      عدت من الصلاة الى المقهى حيث جلست قرب حقيبتي في انتظار شروق الشمس.. وفي حوالي الساعة السادسة والنصف جاءني عامل المقهى بكوب كبير من القهوة والحليب مع قطعة معجنات كبيرة للفطور, رفض ان يأخذ ثمنها!..
جلست آتناول فطوري على مهل..
     اقترب مني شاب انيق حياني وجلس جنبي, عرفني بنفسه على انه (بلفطارسعيد).. معلم جزائري, اكمل الدراسة في دار المعلمين في القاهرة... بدأ يسألني الاسئلة المعتادة... من اين انت؟ لماذا اتيت؟ ماذا تشتغل؟..
        ثم اخذ يحكي لي متطوعاً عن (تلمسان) التي يلقبونها ب(عروس الصحراء).. فهي جنة من الجنائن الخضراء في وسط الارض المجدبة.. بغاباتها وفواكهها وزرعها من مياه العيون التي تنبع من الجبال المحيطة بها..
          عندما جئت هذه البلدة لم اكن اتصور او اعرف شيئاً عن ماضيها العريق!.. فهي كانت عاصمة احدى الدول الشهيرة في تأريخ الجزائر.. تلك هي (الدولة الزيانية) منذ القرن الثالث عشر حتى بداية القرن السادس عشر, عندما سقطت بيد العثمانيين.. تلك هي دولة (بني زيّان) الشهيرة.. وحكى لي عن مدينة (المنصورة) وهي الان خرائب وآثارقرب (تلمسان)..حيث نشأ عداء مستحكم بين امراء الزيانيين وامراء دولة المرينيين في المغرب.. وقد حاول احد سلاطين المرينين (السلطان ابي يعقوب المريني) ان يسقط (تلمسان) فحاصرها طويلاً وبنى قربها مدينة خارج اسوارها سكنها هو وجيشه وعمر فيها البناء وجلب لها المياه من الجبل واسماها مدينة (المنصورة).. وبقي محاصراً تلمسان لفترة طويلة .. اكل فيها اهالي (تلمسان) كل شئ حتى الخشب والفطائس.. وبعد ثمان سنوات من الحصار مات السلطان المريني.. وعاد جيشه خائباً .. فخرج الناس المحاصرون الى المدينة المهجورة (المنصورة) وخربوها بمعاولهم.. ولم يبقوا منها الا منارة جامعها وقسماً من سورها!

       جعلتني تلك القصة المشوقة التي حكاها لي (بلفطار)  اعجب بهذه المدينة الجميلة (تلمسان) بسورها الحجري الضخم رغم ان البناء قد امتد الى ما وراء السور حتى صار السور في وسط المدينة..
       دعاني (بلفطار) الى تناول قهوة وحليب .. قبلتها شاكراً .. ثم ودعته حيث تمشينا معاً الى خارج المدينة وهو يحكي لي تأريخها وحضارتها.. وعند نهاية الطريق ودعني .. ومضيت...
              في خارج المدينة مررت بغابة رمان.. قطفت ثلاث رمانات كبيرة.. وبعد مسيرة قليلة بدأت بالتاشير للسيارات.. توقفت لي سيارة (بيك آب) كان اصحابها في غاية اللطف وحب العرب والروح الوطنية! ان الجزائريين كعرب يختلفون عن الاوروبيين في انهم يفضلون الحديث بالسياسة كموضوع رئيسي يتحدثون به بهمة وحماسة ونشاط!..
      اوصلني ال (بيك آب) الى مسافة ثلاثين كيلومتراً على الطريق الى (وهران) في ناحية (بني سكران) وقد تعطلت هناك لمدة طويلة لان حركة المرور ميته تماماً في الطريق بين (تلمسان) و(وهران)...
     في الحادية عشرة صباحاً جاءت مجموعة من الصبية بدأوني بالكلام:
-"بونجور مسيو!" (نهارك سعيد ياسيد)
اجبتهم "وعليكم البونجور ورحمة الله وبركاته!"
_"توا ..آغاب؟" (انت عربي؟)
"وي... موا آغاب!" (نعم .. انا عربي!)
-"توا... اسغائيليا؟" (انت اسرائيلي؟)
"نو.. موا.. آغاب!"
-"موسيو... جيكاغا!" (سيجارة!)
قلت لهم "ليس عندي سيجاير... انا لا ادخن!" .. وطبطبت على جيوبي الفارغة!
-" موسيو...جيكاغا!"
      ماذا يفعل هؤلاء الملاعين بالسجائر وطول احدهم لايزيد عن الشبرين!.. ابتعدوا عني ايها الملاعين.. فلا احمل سيجاير ولا املكها.. يبدو انهم لايريدون ان يتركوني لوحدي بسلام.. اذ بقوا ورائي مثل ظلي.. وهم يشحذون بأصرار عجيب..
" موسيو.. جيكاغا"
انهم يتكلمون الفرنسية بطلاقة.. كما لو كانوا فرنسيين.. هؤلاء الشحاذين الملاعين!..
      صاروا اكثر خطورة عندما اخرج كل منهم مقلاعاً... وهم بالجزائرية ايضاً يسمونه (مقلاع).. انها آلة خطرة ..وبدأوا يستعرضون امامي فنون استعمال المقلاع... فعندما يدورونه بسرعة ويرمون به حصاة.. فانها تخرج كالرصاصة في سرعتها بحيث انها تطلق صوتاً كالصفير من شدة سرعتها!.. ايقنت ان هؤلاء الصبيان سيثقبون رأسي بأحد هذه الالات القاتلة!.. قررت ان اتبع معهم اسلوب الخدعة والسياسة!..
"تعالوا.. هل تريدون سيجاير؟ اذاً تعالوا .. اعطيكم سيجاير!" كانوا يخافون ان يقتربوا كثيراً مني.. وكلما كنت ادعوهم للاقتراب كانوا يبعدون اكثر!. قالوا لي:
-"توا... فدائي؟"
قلت "وي..!"
قالوا"قتلت يهود؟"
قلت "نعم!
قالوا "كم يهودياً قتلت؟"
قلت "خمسة!".. فأخذوا يصفقون لي بسذاجة ..ثم سألوني:
"هل تملك سلاح؟"
قلت "طبعاً.. هل رأيتم فدائي.. بدون سلاح؟"
قالوا "اين هو؟"
قلت "هنا" واشرت الى الخيمة التي احملها في حقيبتي!..
قالو "وما هو..هنا؟"
قلت "رشاشة!" وهنا صفر الصبيان صفيراً حاداً.. ثم اشاروا الى الاغنام في اسفل الوادي قائلين:
"اقتل هذه بالرشاشة!"
قلت "كلا..حرام.. انا اقتل... لي زايونيست.." (الصهاينة)!
قالوا "أجل .. صحيح!" ثم هتفوا :
"يسقط اليهود... يعيش العرب.. يعيش العرب!" 
وهكذا انصرفوا عني.. وراودني سؤال.. كيف يتحدث ابناء هذا البلد الفرنسية ومع ذلك يتملكون هذه الروح... الثورية!..


               لا توجد سيارة تمر اطلاقاً.. ولم ازل في ناحية (بن سكران) في منطقة خالية من اي اثر للحياة عدا بعض الرعاة.. الجو حار خانق .. ولا سيارة تمّر..!
      مررت في طريقي بوادٍ.. في اسفله  فتيات  في سن المراهقة (12- 13 سنة) يرعين الماعز.. نادتني احداهن:
" هوب هنا... ياولد.. لاتخف منا .. ياولد!"
        ابتسمت ووقفت انظر اليهن..  صعدن المرتفع واقتربن مني.. حيث كنت جالساً..  ووقفن على بعد خمسين متراً مني.. ينظرن الي ويتضاحكن.. كن خمس فتيات بالملابس الشعبية الجزائرية الجميلة.. سمعت احداهن تنادي الاخرى: 
"ياخديجة..!"
قلت لها "ياخديجة... تعالي هنا!"
اجابتني "انت عربي؟ ماتعرف تهدرفرنسي؟"
قلت لها "لا.. هل تعرفين الكلام بالعربية؟"
اجابتني بالعربية الفصحى " اجل.. اعرف!"
قلت ب(الفصحى): " حسناً.. تعالي هنا.. اقتربي!"
قالت ب(الفصحى)! "كلا .. لا آتي.. انا خائفة منك!"
قلت "ولماذا تخافين مني؟" 
(في قلبي كنت اتذكر المثل العراقي "استحت نصرة من... البصرة"!)
قالت وبصراحة "اخاف ان ... تعتدي عليّ!"
قلت "كلا..اطمأني .. لن افعل لك شيئاً.. تعالي هنا.. لاراك!"
قالت وهي لاتزال تحدثني بالفصحى "كلا.. انني خائفة منك!"
قلت لها "حسناً.. انا سآتي اليك!"
لوحت لي بعصاها وهي تقول:
"لوحاولت ذلك فسوف اضرب رأسك بالعصا!"
قلت "طيب!" 
ثم تظاهرت بالقفز من مكاني.. فهربن راكضات... ثم عدن..
قلت:"اين تعلمتن اللغة العربية؟
قلن "في المدرسة.. نحن تلميذات في الابتدائية!" 
ثم سالنني " من اي البلاد انت؟"
"عراقي"
-"العراق.. بعيدة بالزاف؟"
ثم يبدو انهن شعرن بالامان  معي.. اذ بعد المفاوضات حصلت على مكاسب كبيرة.. اذ اخذن يغنين ويرقصن وهن يرددن اغانٍ شعبية جزائرية!.. ثم جئن قريباً مني.. اعطيتهن الرمان الذي جئت به من (تلمسان) وبعض الماء الذي احمله في (الزمزمية)... كانت احداهن اسمها (بدرة) رائعة الجمال.. سألتني (بدرة)
"انت .. حواس؟"
قلت "أجل.. انا حواس!"
-"والى اين تود الذهاب اليوم؟"
قلت "الى وهران"
قالت "ولاتوجد سيارة لتأخذك؟"
قلت "كما ترين... لاتوجد!"
دعت لي من قلبها قائلة:
 " ربي يجبر لك ركبة!" (اي عسى الله ان يوفر لك ركوباً)

بعدها رأين رجلاً مقبلاً من بعيد فهربن ونزلن الى الوادي..

وصلني التعقيب التالي من الاخ العزيز علي الدباغ:
      في الطريقِ الى وهران.. مرحلةٌ جميلة وغريبة عبر تلمسان وبستان الرمّان في بلدٍ  عربيٍّ اضاع لغته في معمعة "الكومبرادور" الفرنسي (اي الاستعمار الثقافي) دون   ان يضيّع شعوره بالانتماء. فهذا البلد المناضل يحاول اعادة انتمائِهِ العربي بالتعليم   ولكن التخريب الثقافي واضحٌ فيه، وكذلك تأثير البداوة القادمة من الصحراء الكبرى   مع الطوارق الأمازيغ، وصراع البداوة والحضارة فيه. فما أشبه الجزائر بالعراق!     والفئات العمْرِيّة التي تعطيك مقطعاً عمودياً في المجتمع بين الاطفال بالمقلاع او   "المعچال" وبين المعلّم الذي رأى مصر واصحاب السيارة التي نقلتك الى تلمسان   والذين يحبون العرب بحكم الانتماء الطبيعي اليهم ويشكّون بهم بتناقض مشاعرهم   بسبب الاستعمار الفرنسي الذي جعل من الاطفال يتعلمون اللغة الفرنسية في عملية   اجتثاثهم من قوميتهم والتي اصطدمت بموروثِهم الثوري من ايام ثورة المليون شهيد.   والانثى الجميلة "بدرة" وخديجة اللواتي غنّين ورقصنَ لشاب قادمٍ من بلدٍ بعيدٍ   "بالزاف" والذي يكبرهنّ بخمسة اعوامٍ فقط، وسرقن منه "رمّان" الجنة وخبأنه في   صدورهنّ!! واحمد الله انه لم يكن تفاحاً.. والا لخرجتَ من الجنة كما فعل ابوك "آدم"..

  

No comments:

Post a Comment