Wednesday 28 February 2018

من الجحيم الى اسبانيا وبالعكس!


ملخص ما سبق نشره من المدونة:  انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر  دول اوربا...   كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا وها انا في اسبانيا.. اكملت رحلتي في الاندلس في قرطبة ثم جئت الى (غرناطه) وتعرفت على شباب سوريين وسكنت معهم..  وها انذا الان على وشك مغادرة غرناطه في طريقي الى المغرب...

الاثنين 14 ايلول 1969    

                 استيقظت وانا لا ازال قلق من ما يخبئه  المستقبل القريب 
لي.. تناولت الفطور مع (علي) و(منذر).. الفطور الذي يعدانه رائع خصوصاً الزيت والزعتر.. فقد التهمته بشهية وشراهة لاني لم اذق مثل هذا الفطار من قبل..  طعمه مميز ولذيذ.. ربما تعود لذته بالنسبة لي لكوني احب اكل الزيتون...

        ودعت (منذر) وداعاً حاراً ووعدته بأن اراسله.. كان رائعاً جداً معي.. وكريماً.. واحببته كثيراً.. ان (منذر) من النوع الذي لايشعرك بالحرج فهو يغمرك بكرمه النابع من طيبة نفسه.. 

            خرجت مع (علي) الى السوق اولاً حيث اشترينا بعض اللوازم.. ثم ركبت الحافلة المتجهة الى خارج المدينة... كانت خططي قد تغيرت قليلاً.. فقد رأيت ان طريقي من (غرناطة) سيكون اطول واصعب اذا ذهبت الى مدينة (الجزيرة الخضراءAlgeciras ) والتي تنطلق منها السفن الى (طنجة) في المغرب.. وقد نصحني البعض من العارفين.. ان من الافضل لي ان اذهب الى (مالقة Malaga) والعبور منها الى (مليلةMelila) في الساحل المغربي... لذا فقد قررت التوكل على الله والتوجه الى (مالقة)..
          نزلت من الحافلة في نهاية الخط ثم مشيت حوالي اربعة كيلومترات.. التقيت بسواح اوتوستوب مثلي كانوا انكليز قادمين توا من رحلة اوتوستوب الى تونس والجزائر والمغرب.. سألتهم بلهفة: "اخبروني عن حال الاوتوستوب في تلك البلاد" 

قالوا "انه عظيم!.. انه سهل متيسر.. اعظم اوتوستوب تقوم به هو في تلك البلاد"!  
ذهلت للجواب وعدت اسأل ثانية:
" ولكني سمعت ان من الصعب عمل الاوتوستوب في شمال افريقيا.. فالارض شاسعة.. والسيارات المسافرة قليلة؟"

قالوا "بل على العكس.. السيارات كثيرة وهم يحبون السياح ويكرمونهم.. ولايقف السائح اكثرمن بضع دقائق حتى يجد من يتوقف له ويأخذه بسيارته!"
       عدت وسالتهم بعضاً من الاسئلة الاخرى.. طمأنوني تماماً واخبروني ان لا داع ولا مبرر لخوفي من اي امر.. فالسياحة في تلك البلاد اسهل مما هي عليه في اوربا والناس اكثر طيبة وكرماً..

          فرحت كثيراً لتلك الاخبار.. اذاً تخوفاتي كلها بلا مبرر!.. وسوف اكون مرتاحاً في تلك البلاد كما انا مرتاح هنا في القارة الاوربية.. ولن اجد من المشاكل ماكنت اخشاه.. ولن الق صعوبة بسبب طول المسافة.. وان شاء الله ستنجح خطتي في الوصول الى الاسكندرية عن طريق ساحل شمال افريقيا.. ايه.. كم هو حلم جميل!..

             بقيت امشي لمسافة طويلة.. دون ان تتوقف لي سيارة واحدة!.. والساعة بلغت الرابعة عصراً.. واخذ الجوع يعضني بنابه!.. مررت من قرية فجلست في كافتريا تناولت فيها بعض الطعام والشاي والحليب ثم مشيت خمسة كيلومترات اخرى...

          مررت باحدى مزارع البطيخ الحلو.. فناداني المزارع .. 

وكسر لي بطيخة كبيرة وقدمها لي بعد ان جعلها قطعاً صغيرة بسكينته الحادة..

 كانت حلوة كالشهد..  وقبل ان اكمل تناول قطع البطيخ الشهي دفع بواحده اخرى امامي بعد ان قطعها اجزاء صغيرة!..  شكرته على كرمه.. تبللت يدي بالماء الحلو للبطيخ... ففتحت الزمزمية التي احملها معلقة بحقيبتي وسكبت بعض الماء على يدي.. 
قال الرجل مستنكراً "ماهذا؟ ماء؟" 
ثم هرول الى كوخه القريب واخرج زقاً من الجلد وبه نبيذ احمر.. ثم دعاني للشرب.. 
قلت له " كلا ..شكراً.. لا اشرب الكحول!" ثم ودعته قائلا
 "اديوس adius" (الوداع) ..
            وتركته ومشيت!.. تركته حائراً اذ ربما هذه اول مرة يلتقي بسائح اوتوستوب.. يرفض تناول الخمر! خصوصاً وانها.. مجانية!... أحسست ان لسان حاله كان يقول "عشنا وشفنا سواح اوتوستوب... وميشربون كحول!"
           بقيت امشي واؤشر للسيارات. .ولكن لم تتوقف لي سيارة واحدة!.. ياإلهي حتى الان لم تتوقف لي سيارة.. والطريق طويل الى (مالقا).. يارب عونك ومددك... يارب!

        وبعد ان شعرت بالضجر والاحباط.. يأست من حصاد هذا اليوم.. قررت ان ابحث عن مكان مناسب للتخييم والنوم... وهنا توقفت لي دراجة بخارية (موتورسيكل)!


 وعرض علي ان اصعد خلفه!..حسناً.. شئ افضل من لاشئ.. لعل حظي يتحسن ان ركبت معه.. صعدت ورائه.. وانطلق بأقصى سرعته!.. لكني ندمت كثيراً لركوبي معه.. يألهي سوف اموت من التعب.. فالحقيبة على ظهري يزيد وزنها على العشرين كيلو.. وبانطلاق الدراجة بسرعة زحفت الحقيبة الى وسط ظهري حيث صارت في وضعية مؤلمة.. 

حتى كادت تكسر ظهري الى نصفين.. وسرعة الدراجة جعلت وزن الحقيبة اكثر بكثير!.. كما ان الهواء البارد الشديد يصفع وجهي فلا استطيع ان ارى شيئاً!..
         اوصلني الرجل الى مسافة عشرين كيلومتراً.. كادت روحي لفرط الاعياء وثقل الحقيبة التي احملها ان تفارق جسدي..  شكرت الرجل ونزلت بينما دخل هو في احدى القرى.. الحمد لله الذي انهى رحلتي على الموتورسيكل قبل ان ينقصم ظهري الى نصفين.. وقررت عدم تكرار تجربة ان اركب موتوسيكلاً ما حييت ابداً.. ياإلهي.. كم كانت الرحلة مضنية وشاقة.. حقيبتي الثقيلة كادت ان تقتلني...

     لقد تعبت كثيراً ولن استمر في السفر هذا اليوم.. والظلام صار دامساً.. فعينت بقعة مناسبة لوضع خيمتي عليها.. ولكن فجأة وبدون ان اؤشر بيدي او ارفع يدي ..توقفت سيارة اسبانية لي.. ركبت فيها على الفور.. كان السائق اسبانياً يتحدث الانكليزية بلهجة امريكية فيها الكثير من المبالغة والتصنع.. لكنه كان لطيفاً جداً.. كان يشعر بالنعاس.. فتوقفنا مرتين في كازينوهات لشرب القهوة.. والشئ الرائع فيه انه ذاهب الى... (مالقــــــــــه)!

      وهكذا شاءت ارادة الله ان ابقى طوال النهار الى الليل دون ان تقف لي اية سيارة.. وعندما كنت افكر في النوم تتوقف لي دراجة بخارية (موتورسيكل).. ثم تتوقف لي سيارة تأخذني الى (مالقة Malaga ) حيث وصلتها في حوالي الثانية عشرة ليلاً!..

      تركني الاسباني ذو اللهجة الامريكية في ميناء (مالاقة) حيث ودعته شاكراً فقد كان في غاية اللطف معي..  


اذ اوصلني الى الميناء.. كان البحر يهدر.. ومنظر شارع كورنيش مالقة يذكرني بشارع ابي نؤاس.. واشجار النخيل في الشارع تحكي قصة العرب عندما كانوا يحكمون هذه الديار..
        منظر الميناء والشارع على البحر لايمكن وصفه.. فنحن لم نتعود رؤية البحر.. بامواجه المتلاطمة.. وصوته الهادر..  ونسيمه البارد العليل وهوائه العذب النقي..

          التقيت في الميناء بشاب مغربي .. ومعه زوجته الالمانية.. وكانا في رحلتهما للذهاب الى المغرب..  هو طالب قد تخرج من المانيا وحمل معه شهادته.. وعاد وبصحبته شهادة ثانية هي شهادة زواجه!.. فرح كثيراً عندما عرف انني عربي.. وحاول هو وزوجته ان يقدما لي كل مساعدة ممكنة.. وذهبت معهما الى مكتب المعلومات في الميناء.. وسألوا لي عن الباخرة الذاهبة الى (مليلةMelila) في المغرب فأجاب الموظف بانها في الساعة الثانية عشرة من ظهر غد.. دعاني المغربي وزوجته لتناول المرطبات.. التي تناولتها على عجل اذ ان علي ان ادبر قضية مبيتي هذه الليلة.. لقد كانا في غاية الود معي.. ولكن زوجته الشقراء الالمانية كانت في غاية القبح!.. لا ادري كيف يمكن لانسان ان يتزوج امرأة بهذا القبح المتناهي, خصوصاً اذا كانت اجنبية وسيصطحبها معه الى بلده (هدية!).. ربما انها حقيقة ان (الحب اعمى العينين.. واحياناً.. اطرش ايضاً)!.. شعرها الاشقر اشعث كالصوف لم يعرف المشط منذ  خلقت!.. اسنانها الامامية مفقودة! ولم تضع اية اسنان اصطناعية او اي شئ.. فبقيت مقدمة فمها بلا اسنان! طويلة ونحيفة وذات أنف معقوف.. انها تصلح ان تمثل في فيلم رعب في هوليوود..  او تكون وسيلة لاخافة الاطفال للحد من شقاوتهم ومشاكساتهم!
         دلوني على الحافلة التي توصلني الى المخيم السياحي (الكامبنكcamping).. فودعتهم شاكراً.. فقد كانوا لطافاً معي على الرغم من قبح منظر زوجته!.. كان المخيم بعيداً جداً عن الميناء.. وبقيت الحافلة تسير اكثر من نصف ساعة الى ان وصلت..
           في داخل المخيم نصبت خيمتي لانام..  واثارت فضولي سيارة حافلة انكليزية تحمل سواح هيبيين بريطانيين كانوا في رحلة الى اسبانيا.. الحافلة مصبوغة بعشرات الاصباغ والاعلانات والشعارات والرسوم المجنونة.. 


بحيث من ينظر اليها يتصور انه في (سيرك) وبالخط العريض كتب عليها عبارة (من الجحيم الى اسبانيا وبالعكسfrom Hell to Spain and Back) وعبارة اخرى (نرشح بوب ديلان للرئاسة)!..  (وبوب ديلان هو مغني مشهور باغانية الهادفة الشعبية!....

وصلني التعقيب التالي من الاخ المثقف د. علي الدباغ


       حلاوة البطيخ اسالت لعابي وتحسّرتُ على النبيذ المجّاني في الزِقِّ الجلدي... ولو   انني اعلم قبل أن أقرأ ذلك المقطع انك سترفض شربَه، ولكنني رغم ذلك احسستُ   بغصّة في البلعوم وانت تقول له "گراثياس" ثم أديوس... تلتها تجربتك القاسية الاُخرى   التي كانت مع الدرّاجة النارية وكأنها تعاقبك على ذلك، ومن ثم انفراج الشِّدَة   ووصولك  "ملقا" مروراً بالحكاية الازلية للعربي الاسمر والشَعْر  الأشقر (!) حتى لو   كان كما يقول "محمود شكوكو": 
 أصل نار الحب حاميه
 والمرايا بتاعتو عميه!!
 وختام تلك المرحلة في المخيّم السياحي... وباص "الهِپّيز" (من الجحيم الى اسپانيا   وبالعكس) والذي يقترح انتخاب "بوب ديلون" مغني الپوپ الذي اوحى لي باقتراح   نفس الشيء في العراق لانتخاب المرحوم "بوب ديلون" بدلاً من كل المرشحين في   الانتخابات هناك واكثر!!! 
 وانا الآن بانتظار رحلتك البحرية الى "مليلة" واتساءَل: هل سيكون سفر الاوتوستوپ   لك وانت الشاب العربي الاسمر بنفس السهولة للأورپيين الشُقْر ذوي العيون الزرقاء؟   وهل ستتجاوز عقدة "سي السيّد" الأجنبي  هناك؟ لستُ أدري...

!!عبرت البحر المتوسط.. على مودك


ملخص ما سبق نشره من المدونة: انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر دول اوربا... كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا وصلت اسبانيا وقضيت وقتاً في (قرطبة) و(غرناطه) .. وها انا في ميناء (ملاقا) في اقصى جنوب اسبانيا اتهيأ للعبور الى شمال افريقيا..!..



الثلاثاء 16 ايلول 1969   
            استيقظت حوالي الثامنة صباحاً...حزمت اغراضي وغادرت المخيم مشياً على الاقدام الى ميناء المدينة الاسبانية الساحلية (مالاقا).. 

كان الطريق جميلاً فهو يمر بمحاذاة الشاطئ الذهبي.. وسرت المسافة كلها على الشاطئ وانا اجمع الاصداف البحرية والاحجار الملونة الجميلة.. وقضيت في مسيري وقتاً ليس بالقصير!.

       وصلت المصرف حيث بدلت مبلغاً من المال.. كان المغربي قد اخبرني البارحة ان سعر التذكرة للدرجة الثانية على الباخرة هو مئتين وستين بيزيتا (حوالي خمسة دولارات).. ولا يوجد في الباخرة الذاهبة الى مليلة درجة ثالثة والتي يسمونها   (اون دكOnDeck) [في جميع البواخر هناك درجة اولى.. ودرجة ثانية ودرجة ثالثة للسواح ومحدودي الدخل وعباد الله من الطلاب امثالي.. وتوفيراً للمال.. حيث تكون الدرجة الثالثة (اون دك) وتعني (على ظهر الباخرة) اي يحرم صاحبها من امتياز الحصول على غرفة نوم وبالتالي يسمح له بالنوم  في قاعات الجلوس الرئيسية في الباخرة وبدون فرش.. فمن كان عنده كيس نوم مثلي فلا مانع عنده من النوم على احد المقاعد او حتى على ارضية قاعات الجلوس!]
      ذهبت للميناء فوقفت في طابور طويل لقطع التذاكر.. كانت شركة عبارات لها خطوط متنوعة الى عدة اتجاهات من المغرب والاجزاء الاسبانية من شمال افريقيا.. (شركة مالقة لعبر المتوسطCompania Transmediterranea Malaga)عندما وصل الدور لي قلت:
 "آن بيليتا بارا مليلهUn Billete para Mellila" (بطاقة واحدة الى مليلة).
      اخبرني بائع التذاكر ان جميع بطاقات الدرجة الثانية قد نفذت وان عندهم درجة اولى فقط (بريميراPremera) فكرت بسرعة.. لاتوجد باخرة اخرى ذاهبة الى المغرب عدا هذه هذا اليوم.. واذا لم اشتر البطاقة فانني ساضطرللبقاء هذا اليوم... وتحمل نفقات اضافية!... خلاص.. (بريميرا.. بريميرا!) وأمرنا لله...
       تمشيت في مالقة اتفرج على هذه المدينة الجميلة ذات الطابع العربي بنخيلها وبالعربات التي يجرها الحصان.. والشوارع الانيقة والمقاهي المنتشرة على الرصيف!.. كم هي جميلة هذه المدينة..

        وصلت الى الباخرة قبل رحيلها ببضع دقائق.. ودخلت القاعة الرئيسية فيها المخصصة لركاب الدرجة الاولى.. وجلست على احد المقاعد الوثيرة.. تعرفت بشاب مغربي بربري مسلم اسمه (ادريس) كان يشتغل في بلجيكا ومتزوج في المغرب.. وهو يأتي كل عام ليقضي ثلاثة اشهر مع زوجته في المغرب في اجازته السنوية! كان طيب القلب جداً ومحب للمسلمين وللاسلام وكان يتكلم المغربية المحّورة الى العربية الفصحى!.. دعاني الى تناول القهوة معه في قاعة المقهى في الباخرة حيث تعرفنا على مجموعة من العرب..
      تعرفت على رجل جزائري كان جالساً قربي اسمه (عبدالكريم).. كان يشتغل في فرنسا وفي البداية جاء بسيارته وكانت معه زوجته الا انها مرضت فاضطر الى ارسالها بالطائرة الى الجزائر.. وهاهو يعود بسيارته الى الجزائر حيث يقضي اجازته الصيفية هناك .. كان في غاية الطيبة ومحباً للعرب وللاسلام.. عرض علي ان يوصلني بسيارته معه الى مدينة (تلمسان) في الجزائر حال وصولنا الى المرفأ في (مليلة)!..
     فكرت قليلاً وترددت.. فقد كنت انوي قضاء بعض الوقت في المغرب والتعرف عليها جيداً قبل الذهاب الى الجزائر.. ولكن عرض صاحبي (عبدالكريم) كان عرضاً مغرياً!.. اذ سأختصر الزمن واكون في ذات اليوم قد تركت اسبانيا.. ومررت بجزء من المغرب.. ودخلت الجزائر!.. وجدت عرضه مقبولاً ووافقت على الذهاب معه بسيارته!...

       في حوالي الثامنة مساءاً وصلنا (مليلة) في نهاية اول رحلة بحرية طويلة في حياتي!.. لقد كنت متشوقاً لتلك الرحلة.. عبور البحر المتوسط من (مالقة) الى (مليلة).. وقد كنت خائفاً بعض الشئ من السفر بالبحر خشية امواجه المتلاطمه وخوف اصابتي بدوار البحر.. ولكن والحمد لله لم يصبني ماكنت اخشاه.. بل ان الباخرة كانت تسير بهدوء وخفة وراحة.. ولم نشعر بأي مضايقة او احساس بحركة الامواج.. حقاً كانت باخرة كبيرة وعبّارة.. مصممة لنقل السيارات والمسافرين...
        ودعني المغربي (ادريس) واعطاني عنوانه (الريساني ادريس, زنقة-, لبريك , خريبكه, المغرب).. ركبت بالسيارة الستروين الخاصة ب(عبدالكريم).. وبعد ربع ساعة وصلنا مركز الحدود الاسبانية حيث ختموا جوازاتنا بختم الخروج من دولة اسبانيا.. ف(مليلة) رغم وقوعها على الساحل المغربي في شمال افريقيا ولكنها تابعة الى (اسبانيا) مثلها مثل (سبته).. ولم يتركها الاسبان لحد الان.. وفي كثير من الاحيان يربط الاسبان اعادة (سبتة ومليلة) الى المغرب.. بعودة (جبل طارق) (Gibraltar) الى اسبانيا.. لكونه مازال محتلاً من قبل بريطانيا!
         دخلنا الحدود المغربية.. كان ضباط الجمارك على الحدود المغربية سيئون للغاية وعاملونا معاملة رديئة.. واجروا التفتيش الدقيق لامتعتنا.. اخرّونا بدون داع مما ترك اثراً سيئاً في نفسي بالفارق بين معاملة  الاسبان الحسنة ومعاملة اخواننا العرب!..
               سار (سي عبدالكريم) باقصى سرعته في الاراضي المغربية لضيق الوقت.. فالساعة الان قاربت الحادية عشرة ليلاً ومايزال امامنا طريق طويل.. وكنت اسرّي عنه حيث كنا نغني سوية اغاني عربية خفيفة لفريد الاطرش.. وعبدالحليم حافظ.!
      وصلنا مركز حدود الخروج من المغرب في منطقة (وجده) وبعدها في الحادية عشرة والنصف ليلاً دخلنا الحدود الجزائرية من منطقة (مغنيّه) او (زودي بيغال Zoudi-Beghal ) .. اخرونا كثيراً في اجراءات الجمارك على الحدود الجزائرية في مركز الحدود وهو بناء قديم متهالك.. علمت بان اجراءات الدخول والخروج بين المغرب والجزائر رديئة سبب النزاع الذي حصل بين المغرب والجزائر حول التمرد في الصحراء العربية الكبرى والذي ادى الى اقتتال شديد وراح ضحيته الكثير من الطرفين! حيث رفضت المغرب الاعتراف بتمرد (الصحراويين) ومطالبتهم بالاستقلال عنها.. بينما اعترفت الجزائر بالمتمردين وربما امدتهم بالدعم والعون علي تمردهم!
       بعد ساعتين ونصف من المسير في الطريق الصحراوي الموحش الخالي من السيارات. .والذي لايسمع فيه غير صوتي وصوت (سي عبدالكريم) ونحن نغني (ضي القناديل والشارع الطويل)!.. وصلنا الى مدينة (تلمسان) الجزائرية في حوالي الواحدة صباحاً...
        كنت احسب ان (سي عبدالكريم) سيدعوني للمبيت في بيته.. ولكن خاب ظني!.. اذا اخذني الى احدى المقاهي الجزائرية وهي على طراز الكافيتريات الفرنسية وتختلف كثيراً عن المقاهي العربية, وهناك دعاني لأكل بعض المعجنات والقهوة واوصى بي صاحب المقهى خيراً, ثم ودعني ومضى!..
         بقيت جالساً في المقهى .. وجاء صاحب المقهى فجلس جنبي وسألني باللهجة الجزائرية الثقيلة:
-"من اي بلاد انت؟"
قلت "من العراق"!
سألني "انت.. مسلم؟"
اجبت "نعم"
-"العراق... هي نفسها.. مصر؟"
قلت "كلا.. انها تبعد عن مصر كثيراً!"
قال مدهوشاً "ياه.. لازم بعيدة بالزاف!" 
(لانه فيما يبدو كان يظن ان مصر هي آخر العالم!)
-"انتو.. حاربتوا ... اليهود؟"
قلت متردداً "نعم!"
-"لماذا لم تنتصروا عليهم؟"
لم اتمكن من الاجابة وبقيت ساكتاً.. عاد وسألني:
-" العراق بعيدة.. كيما مكة؟"
قلت "نعم انها بعيدة كبعد مكة!"
-"وكيف إجيت لهنا؟"
قلت له "جئت سياحة عبر اوروبا!"
-"انت حوّاّس؟" (سائح)
قلت " نعم.. انا حوّاّس!"
-"وإيش كاين تخدّم بالعراق؟"(ماذا تعمل في العراق)
قلت له "انا طالب في كلية الطب"
وعاد ليسألني الاسئلة الكثيرة عني وعن بلدي!..
         في حوالي الثالثة بعد منتصف الليل قال لي "تعال معي" ثم اغلق مقهاه.. وذهبت معه, كنت اظنه سيدعوني الى بيته!.. ولكني للمرة الثانية اخطأت التقدير.. فيبدو ان الجزائريين لا يحسنون الظن بالاغراب!.. وطبعاً فهم معذورون, وعلى كل حال فإننا كعرب ومسلمون نتحفظ كثيراً في دعوة الناس الى بيوتنا.. لان البيت "عرَض وحُرمه" ونخشى على سمعتنا عند دعوتنا اناس اغراب لانعرفهم الى بيوتنا.. خصوصاً في سواد الليل!.. نحن هيابون ومتحفظون الى درجة التعقيد النفسي في امور الشرف والعرض!. لذا فقد وجدت صاحب المقهى يتركني في مقهى آخر يبدو انه يبقى مفتوحاً طوال الليل وحتى الصباح!.. هناك طلب لي قهوة بالحليب ثانية.. وثم ودعني ومضى.. بعدها نمت في المقهى وانا جالس على الكرسي.. كانت نومة غير مريحة على الاطلاق!..

في تعقيب للاخ صادق رحيم الياسري على الفيس بوك:

جميلة كتابتكم 
لكن ان اختلف معك في قولك (وعلى كل حال فإننا كعرب ومسلمون نتحفظ كثيراً في دعوة الناس الى بيوتنا) ، لعل هؤلاء من طبائعهم عدم دعوة الضيف ، لكن على النقيض تماما من عروبتهم وإسلامهم. فليس من الانصاف ان ننسب فعلهم للعروبة أو للإسلام


وفي تعقيب للاخ الاديب علي  الدباغ:


يقول المصلاوي: "انقضى العيد وِمْرَقُّو وكِلمِنْ رَجَعْ لِخْرَقُّو" اي بعد انقضاء العيد عاد كُلٌّ الى خرقِهِ البالية. انقضت ايام اوروپا الشرقية والغربية وآخر اعراسها في ملقا ومليلة، وعادت حليمة لعادتها القديمة... صفاقة موظفي الحدود وجلافة اهل البلد وشكوكهم بابناء جلدتهم. فهل تذكر ما قاله لك السوّاح الانگليز عن ان الاوتوستوپ في المغرب والجزائر اسهل منه في اوروپا وان الناس اطيب؟ وذلك يذكرني بمثلٍ عراقي كانت والدتي رحمها الله تذكره في الحالات المماثلة: نادرة للناس وغمّة لبيتها!!! والحقيقة ان الفارق بين شمال المتوسط وجنوبه فارِقٌ حضاري صنعته ظروفُ شمال افريقيا والوطن العربي بين موروثِ عصورٍ مظلمة ومكتسبِ استعمارٍ غاشم... والمثل يقول: "لا تسأل الإنسان بل إسأل الظروف". ولا انسى موقف "باباك ميركو" مقارنةً بصاحب المقهى الجزائري وحتى "عبد الكريم" الذان لم يكن احدهما "كريماً" معك. بينما لو كنتَ ابيضاً اشقرَ الشَعْرِ ازرقَ العينين لاختلف الحال، اليس كذلك؟ انها التفرقة العنصرية... معكوسة!!!

والله لقد تكأبْتُ من تسلسل احداثِ هذه "الصفحة" من مدونتك، فعسى القادمُ افضل..

تلمسان


ملخص ما سبق نشره من المدونة: انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر دول اوربا... كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا واسبانيا ثم عبرت المتوسط الى المغرب وها انا في الجزائر.


الاربعاء 17 ايلول 1969  
       في الخامسة فجراً صدح صوت الاذان من الجامع المقابل للمقهى الذي كنت فيه.. تركت حقيبتي امانة عند صاحب المقهى وذهبت الى الجامع للصلاة... كان الجامع يسمى الجامع الكبير وهو اكبر جامع في مدينة (تلمسان)..

         محل الوضوء كان عبارة عن حوض دائري من المرمر مملوء بالماء والمتوضؤون يحيطون بالحوض يغرفون الماء بأكفهم ويؤدون الوضوء بهذه الطريقة.. كان الماء بارداً كالثلج وصافياً وقد انعشني الوضوء بماءه البارد وصفاءه وازال عني ارهاق الليلة الماضية حيث لم انم بشكل مريح....
       دخلت الحرم للصلاة.. كان الحرم رائعاً كبيراً مفروشاً بالسجاد الفاخر وتوسطت المسجد ثريا هائلة من الكريستال, 

اخبرني احد المصلين ان بها ثلثمائة وخمسة وستين مصباحاً اي بعدد ايام السنة.. واديت الصلاة جماعة بين عدد كبير من المصلين.. كان المصلون جميعاً يسبلون ايديهم في الصلاة... لانهم من اتباع المذهب السني (المالكي)..
      عدت من الصلاة الى المقهى حيث جلست قرب حقيبتي في انتظار شروق الشمس.. وفي حوالي الساعة السادسة والنصف جاءني عامل المقهى بكوب كبير من القهوة والحليب مع قطعة معجنات كبيرة للفطور, رفض ان يأخذ ثمنها!..
جلست آتناول فطوري على مهل..
     اقترب مني شاب انيق حياني وجلس جنبي, عرفني بنفسه على انه (بلفطارسعيد).. معلم جزائري, اكمل الدراسة في دار المعلمين في القاهرة... بدأ يسألني الاسئلة المعتادة... من اين انت؟ لماذا اتيت؟ ماذا تشتغل؟..
        ثم اخذ يحكي لي متطوعاً عن (تلمسان) التي يلقبونها ب(عروس الصحراء).. فهي جنة من الجنائن الخضراء في وسط الارض المجدبة.. بغاباتها وفواكهها وزرعها من مياه العيون التي تنبع من الجبال المحيطة بها..
          عندما جئت هذه البلدة لم اكن اتصور او اعرف شيئاً عن ماضيها العريق!.. فهي كانت عاصمة احدى الدول الشهيرة في تأريخ الجزائر.. تلك هي (الدولة الزيانية) منذ القرن الثالث عشر حتى بداية القرن السادس عشر, عندما سقطت بيد العثمانيين.. تلك هي دولة (بني زيّان) الشهيرة.. وحكى لي عن مدينة (المنصورة) وهي الان خرائب وآثارقرب (تلمسان)..حيث نشأ عداء مستحكم بين امراء الزيانيين وامراء دولة المرينيين في المغرب.. وقد حاول احد سلاطين المرينين (السلطان ابي يعقوب المريني) ان يسقط (تلمسان) فحاصرها طويلاً وبنى قربها مدينة خارج اسوارها سكنها هو وجيشه وعمر فيها البناء وجلب لها المياه من الجبل واسماها مدينة (المنصورة).. وبقي محاصراً تلمسان لفترة طويلة .. اكل فيها اهالي (تلمسان) كل شئ حتى الخشب والفطائس.. وبعد ثمان سنوات من الحصار مات السلطان المريني.. وعاد جيشه خائباً .. فخرج الناس المحاصرون الى المدينة المهجورة (المنصورة) وخربوها بمعاولهم.. ولم يبقوا منها الا منارة جامعها وقسماً من سورها!

       جعلتني تلك القصة المشوقة التي حكاها لي (بلفطار)  اعجب بهذه المدينة الجميلة (تلمسان) بسورها الحجري الضخم رغم ان البناء قد امتد الى ما وراء السور حتى صار السور في وسط المدينة..
       دعاني (بلفطار) الى تناول قهوة وحليب .. قبلتها شاكراً .. ثم ودعته حيث تمشينا معاً الى خارج المدينة وهو يحكي لي تأريخها وحضارتها.. وعند نهاية الطريق ودعني .. ومضيت...
              في خارج المدينة مررت بغابة رمان.. قطفت ثلاث رمانات كبيرة.. وبعد مسيرة قليلة بدأت بالتاشير للسيارات.. توقفت لي سيارة (بيك آب) كان اصحابها في غاية اللطف وحب العرب والروح الوطنية! ان الجزائريين كعرب يختلفون عن الاوروبيين في انهم يفضلون الحديث بالسياسة كموضوع رئيسي يتحدثون به بهمة وحماسة ونشاط!..
      اوصلني ال (بيك آب) الى مسافة ثلاثين كيلومتراً على الطريق الى (وهران) في ناحية (بني سكران) وقد تعطلت هناك لمدة طويلة لان حركة المرور ميته تماماً في الطريق بين (تلمسان) و(وهران)...
     في الحادية عشرة صباحاً جاءت مجموعة من الصبية بدأوني بالكلام:
-"بونجور مسيو!" (نهارك سعيد ياسيد)
اجبتهم "وعليكم البونجور ورحمة الله وبركاته!"
_"توا ..آغاب؟" (انت عربي؟)
"وي... موا آغاب!" (نعم .. انا عربي!)
-"توا... اسغائيليا؟" (انت اسرائيلي؟)
"نو.. موا.. آغاب!"
-"موسيو... جيكاغا!" (سيجارة!)
قلت لهم "ليس عندي سيجاير... انا لا ادخن!" .. وطبطبت على جيوبي الفارغة!
-" موسيو...جيكاغا!"
      ماذا يفعل هؤلاء الملاعين بالسجائر وطول احدهم لايزيد عن الشبرين!.. ابتعدوا عني ايها الملاعين.. فلا احمل سيجاير ولا املكها.. يبدو انهم لايريدون ان يتركوني لوحدي بسلام.. اذ بقوا ورائي مثل ظلي.. وهم يشحذون بأصرار عجيب..
" موسيو.. جيكاغا"
انهم يتكلمون الفرنسية بطلاقة.. كما لو كانوا فرنسيين.. هؤلاء الشحاذين الملاعين!..
      صاروا اكثر خطورة عندما اخرج كل منهم مقلاعاً... وهم بالجزائرية ايضاً يسمونه (مقلاع).. انها آلة خطرة ..وبدأوا يستعرضون امامي فنون استعمال المقلاع... فعندما يدورونه بسرعة ويرمون به حصاة.. فانها تخرج كالرصاصة في سرعتها بحيث انها تطلق صوتاً كالصفير من شدة سرعتها!.. ايقنت ان هؤلاء الصبيان سيثقبون رأسي بأحد هذه الالات القاتلة!.. قررت ان اتبع معهم اسلوب الخدعة والسياسة!..
"تعالوا.. هل تريدون سيجاير؟ اذاً تعالوا .. اعطيكم سيجاير!" كانوا يخافون ان يقتربوا كثيراً مني.. وكلما كنت ادعوهم للاقتراب كانوا يبعدون اكثر!. قالوا لي:
-"توا... فدائي؟"
قلت "وي..!"
قالوا"قتلت يهود؟"
قلت "نعم!
قالوا "كم يهودياً قتلت؟"
قلت "خمسة!".. فأخذوا يصفقون لي بسذاجة ..ثم سألوني:
"هل تملك سلاح؟"
قلت "طبعاً.. هل رأيتم فدائي.. بدون سلاح؟"
قالوا "اين هو؟"
قلت "هنا" واشرت الى الخيمة التي احملها في حقيبتي!..
قالو "وما هو..هنا؟"
قلت "رشاشة!" وهنا صفر الصبيان صفيراً حاداً.. ثم اشاروا الى الاغنام في اسفل الوادي قائلين:
"اقتل هذه بالرشاشة!"
قلت "كلا..حرام.. انا اقتل... لي زايونيست.." (الصهاينة)!
قالوا "أجل .. صحيح!" ثم هتفوا :
"يسقط اليهود... يعيش العرب.. يعيش العرب!" 
وهكذا انصرفوا عني.. وراودني سؤال.. كيف يتحدث ابناء هذا البلد الفرنسية ومع ذلك يتملكون هذه الروح... الثورية!..


               لا توجد سيارة تمر اطلاقاً.. ولم ازل في ناحية (بن سكران) في منطقة خالية من اي اثر للحياة عدا بعض الرعاة.. الجو حار خانق .. ولا سيارة تمّر..!
      مررت في طريقي بوادٍ.. في اسفله  فتيات  في سن المراهقة (12- 13 سنة) يرعين الماعز.. نادتني احداهن:
" هوب هنا... ياولد.. لاتخف منا .. ياولد!"
        ابتسمت ووقفت انظر اليهن..  صعدن المرتفع واقتربن مني.. حيث كنت جالساً..  ووقفن على بعد خمسين متراً مني.. ينظرن الي ويتضاحكن.. كن خمس فتيات بالملابس الشعبية الجزائرية الجميلة.. سمعت احداهن تنادي الاخرى: 
"ياخديجة..!"
قلت لها "ياخديجة... تعالي هنا!"
اجابتني "انت عربي؟ ماتعرف تهدرفرنسي؟"
قلت لها "لا.. هل تعرفين الكلام بالعربية؟"
اجابتني بالعربية الفصحى " اجل.. اعرف!"
قلت ب(الفصحى): " حسناً.. تعالي هنا.. اقتربي!"
قالت ب(الفصحى)! "كلا .. لا آتي.. انا خائفة منك!"
قلت "ولماذا تخافين مني؟" 
(في قلبي كنت اتذكر المثل العراقي "استحت نصرة من... البصرة"!)
قالت وبصراحة "اخاف ان ... تعتدي عليّ!"
قلت "كلا..اطمأني .. لن افعل لك شيئاً.. تعالي هنا.. لاراك!"
قالت وهي لاتزال تحدثني بالفصحى "كلا.. انني خائفة منك!"
قلت لها "حسناً.. انا سآتي اليك!"
لوحت لي بعصاها وهي تقول:
"لوحاولت ذلك فسوف اضرب رأسك بالعصا!"
قلت "طيب!" 
ثم تظاهرت بالقفز من مكاني.. فهربن راكضات... ثم عدن..
قلت:"اين تعلمتن اللغة العربية؟
قلن "في المدرسة.. نحن تلميذات في الابتدائية!" 
ثم سالنني " من اي البلاد انت؟"
"عراقي"
-"العراق.. بعيدة بالزاف؟"
ثم يبدو انهن شعرن بالامان  معي.. اذ بعد المفاوضات حصلت على مكاسب كبيرة.. اذ اخذن يغنين ويرقصن وهن يرددن اغانٍ شعبية جزائرية!.. ثم جئن قريباً مني.. اعطيتهن الرمان الذي جئت به من (تلمسان) وبعض الماء الذي احمله في (الزمزمية)... كانت احداهن اسمها (بدرة) رائعة الجمال.. سألتني (بدرة)
"انت .. حواس؟"
قلت "أجل.. انا حواس!"
-"والى اين تود الذهاب اليوم؟"
قلت "الى وهران"
قالت "ولاتوجد سيارة لتأخذك؟"
قلت "كما ترين... لاتوجد!"
دعت لي من قلبها قائلة:
 " ربي يجبر لك ركبة!" (اي عسى الله ان يوفر لك ركوباً)

بعدها رأين رجلاً مقبلاً من بعيد فهربن ونزلن الى الوادي..

وصلني التعقيب التالي من الاخ العزيز علي الدباغ:
      في الطريقِ الى وهران.. مرحلةٌ جميلة وغريبة عبر تلمسان وبستان الرمّان في بلدٍ  عربيٍّ اضاع لغته في معمعة "الكومبرادور" الفرنسي (اي الاستعمار الثقافي) دون   ان يضيّع شعوره بالانتماء. فهذا البلد المناضل يحاول اعادة انتمائِهِ العربي بالتعليم   ولكن التخريب الثقافي واضحٌ فيه، وكذلك تأثير البداوة القادمة من الصحراء الكبرى   مع الطوارق الأمازيغ، وصراع البداوة والحضارة فيه. فما أشبه الجزائر بالعراق!     والفئات العمْرِيّة التي تعطيك مقطعاً عمودياً في المجتمع بين الاطفال بالمقلاع او   "المعچال" وبين المعلّم الذي رأى مصر واصحاب السيارة التي نقلتك الى تلمسان   والذين يحبون العرب بحكم الانتماء الطبيعي اليهم ويشكّون بهم بتناقض مشاعرهم   بسبب الاستعمار الفرنسي الذي جعل من الاطفال يتعلمون اللغة الفرنسية في عملية   اجتثاثهم من قوميتهم والتي اصطدمت بموروثِهم الثوري من ايام ثورة المليون شهيد.   والانثى الجميلة "بدرة" وخديجة اللواتي غنّين ورقصنَ لشاب قادمٍ من بلدٍ بعيدٍ   "بالزاف" والذي يكبرهنّ بخمسة اعوامٍ فقط، وسرقن منه "رمّان" الجنة وخبأنه في   صدورهنّ!! واحمد الله انه لم يكن تفاحاً.. والا لخرجتَ من الجنة كما فعل ابوك "آدم"..

  

الحياة اما مغامرة جريئة او لاشئ

    

ملخص ما سبق نشره من المدونة: انهيت الصف الثاني من كلية الطب جامعة بغداد.. في صيف 1969 كان عمري وقتها ثمانية عشر عاماً.. وقررت القيام برحلة مغامرة كبرى اثناء العطلة الصيفية وهي السفر بطريقة الاوتوستوب عبر دول اوربا... كنت ادوّن احداث السفرة ثم قررت نشرها على هذه المدونة التي اسميتها (رحلة البحث عن الذات).في هذه الحلقة كنت قد مررت بتركيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانيا وهولندا ثم جئت مارا ببلجيكا ثم فرنسا واسبانيا ثم عبرت المتوسط الى المغرب وها انا في الجزائر. وصلت البارحة الى مدينة (تلمسان).. وها انا في طريقي الى (وهران)..


الاربعاء 17 ايلول 1969
      
              توقفت لي سيارة (بك آب) اجلسني صاحبها في الصدربجانبه وسار بي مسافة اربعين كيلومتراً.. كان السائق لايحسن الكلام الا بالجزائرية او بالفرنسية..اخذ يقص لي عن اعتقادات ساذجة عن آثار الرسول (ص) في الجزائر.. ولم يقتنع ابداً بحججي وبرأيي بان الرسول لم يزر الجزائر ..ولم تكن الجزائر سوى مدن يحكمها الرومان في زمن الرسول وخلفاءه.. وبقي مصراً على ان الرسول (ص) قد جاء للجزائر وعمل كذا وكذا.. وحكى لي الكثير من القصص والروايات الشعبية التي تشبه الاساطير!...
       عندما اوصلني الى احدى المدن الصغيرة... اشتريت خبزاً وجبناً وتمراً بدينارين ونصف جزائري.. كان من الصعوبة بمكان التفاهم مع البائع.. خصوصاً وانا في اول يوم لي في الجزائر.. ولم يسبق لي العهد بسماع اللهجة الجزائرية, كما ان الناس البسطاء عندما يرون اجنبياً فانهم يتعمدون الكلام معه بالفرنسية لانهم يعتقدون ان كل الاجانب.. وكل السيّاح.. يتكلمون الفرنسية!.. وهم محقون لان جميع السواح الاوربيين الذين يقدمون الى الجزائر.. معظمهم ان لم يكن كلهم , يعرفون الفرنسية!... لذا فانني عندما سألت الرجل البائع كم حسابك فانه اجابني فوراً:
 (دو دينار اي دمي Deux Dinars et Demi) (ديناران ونصف).. 
        ولم يقتنع انني لم افهم شيئاً مما يقول.. واعطيته عشرة دنانير ليقتطع منها ما يشاء.. ويعيد لي الباقي! 
(ملاحظة تعلمت الفرنسية فيما بعد عندما حصلت على اجازة دراسية عام 1979 بعد تخرجي من الطب بستة سنوات.. عشت في فرنسا سنتين حيث حصلت على شهادة الاختصاص في الطب الرياضي من جامعة مونبليه)
      ان قسم من الجزائريين وهم قلة يتعمد الكلام بالفرنسية مخلوطة مع كلامه بالجزائرية كوسيلة للتفلسف وإبراز المعرفة والثقافة! فالذي يتكلم اللهجة الجزائرية فقط.. هو انسان غير مثقف.. وكلما ازدادت شهاداته وثقافته زاد ميله لاستعمال الفرنسية اكثر فأكثر كوسيلة للتخاطب.. 
      وقسم آخر من الجزائريين يتحدثون الفرنسية بحكم (العادة) ليس الا.. وقد رأيت في السيارات التي ركبتها ان قسم من الجزائريين عندما يتحدثون فيما بينهم فانهم يتحدثون باللهجة الجزائرية.. ثم وبدون  قصد منهم  (تقفز) بعض الكلمات او المقاطع والجمل والامثلة الفرنسية في حوارهم بين الحين والاخر دون ان يتعمدوا او حتى يشعروا بذلك..! كما إن اي اثنين قد يتحدثان خمس دقائق كاملة باللهجة الجزائرية ثم يسهواحدهما فيكمل حديثه بالفرنسية, دون ان ينتبه الاخر الذي يرد عليه بالفرنسية ايضاً.. وهكذا يكملون حديثهم بانسياب وعفوية.. ولكن باللغة الفرنسية!..
      ان الجزائريين يحزنون لهذه الظاهرة (عدا بعض مثقفي القشور)! وهم يريدون تعريب الكلام واللغة واعادة اللغة العربية الى مكانها الطبيعي في هذا البلد.. وهم يحملون جميعاً روحاً قومية وثورية.. وعلى درجة عالية جداً.. بحيث انك في كلامك مع الجزائريين تحس وكأنك تخاطب شعب كله ثوّاراً!.. (عدا بعض المتفلسفين وانصاف المثقفين!).. وهم في غالبيتهم ايضاً يحملون اخلاقاً اسلامية عالية وروحاً وعادات اصيلة.. ومتمسكون بالتقاليد الشرقية.. يستثنى من ذلك البعض من سكنة المدن الذين دخل الاستعمر الفرنسي الى قلوبهم وكيانهم.. فصاروا فرنسيين روحاً وجسداً وسلوكاً في اخلاقهم وتصرفاتهم! 
             انهيت طعامي الذي اكلته على الرصيف ..ثم حملت حقيبتي على ظهري وسرت..وبعد مسافة قليلة وصلت نقطة تفتيش عسكرية..  وبها عارضة كبيرة لقطع الطريق.. 

وقد وقف ال (جندرمة ((Gendarme)   الجزائريون بلباسهم الانيق..

        ان الاستعمار الفرنسي ترك طابعاً جميلاً يتمثل في النظام الاداري والاناقة والنظافة.. حتى لكأنك في داخل اوروبا!.. اوقفني الجندرمه الجزائري وسألني:
 " الى اين يا أخي؟" بالفرنسية ..

اجبته باللغة العربية "انا عربي! ذاهب الى وهران!" 

قال لي "حوّاس؟
أجبت "نعم .. حوّاس!" 
قال "إذاً..استرح.. هنا.." 



واشار الى احدى المقاعد الخشبية حيث جلست بضع دقائق.. جاءت سيارة فاوقفوها ثم فتشوها.. واطّلعوا على هويات الراكبين.. (لا ادري لماذا؟) .. ثم سألوا السائق:

 "اين انت ذاهب؟" 
قال " (اوران) كما يسمونها بالفرنسيةOran" التي تعني وهران.." قال للسائق بلهجة آمرة: 
"هناك حوّاس عربي.. خذه معك!" 
    ثم ناداني ال (جيندارم) كما يسمونه.. فاركبني السيارة بنفسه.. واغلق عني الباب.. شكرته.. وسارت بي السيارة الى (وهران)!

        وصلت (وهران) في الخامسةعصراً.. تمشيت فيها.. انها (عمالة) اي (محافظة) كبيرة, وهي عاصمة الثورةالجزائرية.. اذ من جبالها.. جبال الاوراس..  انطلقت الثورة الجزائرية وشرارتها.. شوارعها منظمة ونظيفة كما لو كنت في اي مدينة فرنسية..
      سألت عن الطريق المؤدي الى مدينة (الجزائر العاصمة) او كما يسمونها بالفرنسية (الجيه Alger) تمييزاً عن الجزائر الدولة التي يسمونها (ألجريAlgerie).. و تمشيت خارجاً من المدينة (وهران) وعلى الطريق المؤدي الى (الجزائر العاصمة)..
           وقفت لي سيارة (لاندروفر) اخذتني مسافة ثلاثون كيلومتراً.. ان الاوتوستوب في الجزائر سهل جداً..  فما دام هناك سيارات فإنها تتوقف لك!.. والناس طيبون جداً وفي منتهى اللطف والكرم مع الغريب.. الى ابعد الحدود.. 

      نظرت من شباك السيارة الى الجزائريين بزيهم الشعبي الجميل.. والنساء اللواتي ضربن بالخمارعلى الانف والفم... وهن يرتدين الجلابية العريضة البيضاء.. بل وقسم منهن يمتطين الدراجات الهوائية وهن يرتدين الجلباب والخمار!..




 اما الرجال فهم يرتدون (الجلابة) الجزائرية وهي (دشداشة) عريضة عادة تكون بالوان مقلّمة بالطول وبها غطاء رأس يتركونه معلقاً خلف الظهر او يبقونه فوق العمائم الكبيرة..
      اوصلتني ال(لاندروفر) الى (سيدي بلعباس).. (ابن العباس)!.. ويبدو من اسمها ان فيها مقاماً لاحد الصالحين... وهناك حل الظلام.. توقفت لي سيارة خصوصي بها اربعة شباب في نفس عمري.. اوصلوني الى مسافة بضع كيلومترات ثم نصحوني بان السفر بالليل قد يصير صعباً.. وان احسن طريقة هي ان ابيت الليلة في (الحمّام الشعبي)!.. ودلوني على احد الحمامات الشعبية!
         دخلت الحمام الشعبي.. وجدت قاعة كبيرة بها الكثير من الافرشة الممدودة على منصة عالية.. وهناك مكتب صغير وقف خلفه رجل بالزي الشعبي الجزائري.. جلبت انتباه الجميع بحقيبة السفر التي اضعها على ظهري.. ومنظري الاشعث.. سألني الرجل:
 "استحمام فقط.. ام مبيت ايضاً؟" 
أجبته "ااستحمّام... ومبيت!" 
        طلب مني جواز سفري.. وسجل المعلومات الموجودة فيه على استمارة رسمية تماماً كما لو كنت اسجل للدخول في فندق.. وطلب مني التوقيع.. ودفعت مبلغ اربعة دنانير (دولار وثلث).. عن اجرة النوم.. والاستحمام!.. تركت نقودي وحقيبتي معه واخرجت ملابسي النظيفة ودخلت الحمام.. في المنزع المستور علقت ملابسي ثم دخلت.. وفي داخل الحمام لم اكن استطيع ان ارى شيئاً من شدة البخار.. اعطاني رجل اثنتين او ثلاث قطع من القماش تلف حول خصري (وزرة) حيث لففت بها وسطي ودخلت.. كانت الساحة الوسطية بها منصة عالية من المرمر للتعّرق قبل الاستحمام.. وهناك مقاعد من المرمر منتشرة بشكل حلقة امام جدران الحمام.. 





وامام كل مقعد (حنفية)
للماء الحار واخرى للبارد.. اللذين يصبان في حوض صغير من المرمر.. كان استحماماً رائعاً ومنعشاً.. وقد كان في وقته وفي محله بالنسبة لي! لانني كنت احس بالحاجة الى الاستحمام... بعد مبيت ثلاثة ليال بدون استحمام!..



      بعد الحمام خرجت من منطقة البخار الكثيف الى حيث ارتديت ملابسي.. وبعدها استلقيت على احد الافرشة الوثيرة والغطاء القطني السميك.. وسرعان ما فقدت الاحساس بالعالم الخارجي... ورحت في نوم عميق لذيذ... 


  "الحياة.. اما مغامرة جريئة... او لاشئ"






وصلني التعقيب التالي من الصديق المتابع الجيد لمدونتي الاخ علي الدباغ:
الله الله يا ابا مروة على تلك الصورة الجميلة التي رسمتَها للجزائر والتي ذكرتني بما كانت تعنيه لي ولكل عربي ايام ثورتها في اوائل خمسينات القرن الماضي... وما زلتُ احفظ اناشيدها الوطنية واذكر منها:
 جزائرنا ... يا بلادَ الاسود
 نهضنا نحطّمُ عنكِ القيود
 وفيكِ برغمِ العدا سنسود
 ونعصفُ بالظلمِ والظالمين
       كما اذكر زيارة المناضلة "جميلة بو حيرد" لبغداد وكيف خرجت بغداد عن بكرة ابيها لتحييها... واذكرُ كذلك "رَدّة" السبايات في عاشور (عندما كانت السبايات تمثل الثورة الوطنية قبل ان يشوهها الجهلة) و قد كانوا يرددون فيها:
 الجزاير اخوتنا .. الجزاير اخوتنا
 ذولة اخوتنا .. ذولة اخوتنا 
 وين ندُگّ البسمار
 ونحرر هاي الدار...
     فقد كانت الجزائر رمز الكفاح الانساني ضد الاستعمار الفرنسي، ولو انني احترمتُ  موقف الشعب الفرنسي عندما منح الجزائر استقلالها عن فرنسا باستفتاءٍ   شعبي، رغمَ انه جاءَ من اصرار الشعب على القتال من اجل حريته والمليون شهيد   الذين اعطاهم في سبيلها.
            والاستعمار الثقافي الفرنسي بدأَ بفرنسة التعليم الابتدائي فيها ومن ثمَّ باقي مراحله، وفرض اللغة الفرنسية على نظام الادارة فيها، لذا فلا غرابَةَ فيما قلتَ عنهم وعن تحدّثِهِم بالفرنسية او ولاء البعض لفرنسا النموذج والقدوة.
           ووصفتَ ثورية الشعب الجزائري وايضاً طيبتِهِ وروح المساعدة عنده. وكان اغرب ما قرأتُ في "صفحتك" عن الحمّام العام ونظام المبيت فيه والذي لا اعتقد ان له مثيلاً في العالمِ اجمع! 
       وكم اثارت جملةٌ، وصفتَ بها "وهران" وجبال الاوراس فيها وانها منطلق   الثورة  الجزائرية، في نفسي من مشاعر وكم استدعت من معانٍ فصدحت موسيقى   الاناشيد الوطنية الجزائرية في اذني وهي تشدو
 سلاماً سلاماً جبالَ البلاد
 فانتِ الحصونُ لنا والعماد
 وفيكِ عقدنا لواءَ الجهاد
 وثرنا على الظلمِ والظالمين